أدب الرومانسية
الرومانسية هي وليدة الثورة على القيم الكلاسيكية في أوربا في مجالات السياسة والاجتماع والفكر، وذلك في الربع الأخير من القرن الثامن عشر. وهي مدينة إلى أفكار (جان جاك روسو) في فرنسا التي مهدت للثورة الفرنسية عام 1789، وجسدت القيم الليبرالية أو النزعة التحررية في مجالات الحياة كافة.
فلقد سيطرت الملكية والإقطاع والكنيسة على أوروبا لفترة طويلة، وأخضعت الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية إلى قيود وضوابط كان الإنسان ينوء بحملها، ولكنه لم يعد قادراً على تحملها في القرن الثامن عشر بما عج فيه من أفكار واكتشافات وتوجيهات وطنية وقومية.
ولقد كان للتوجيهات الفلسفية الجديدة في هذا القرن أثر في الابتعاد عن الكلاسيكية وسماتها. فإذا كانت فلسفة (ديكارت) العقلية وراء ترسيخ الضوابط الكلاسيكية، فإن لفلسفة (كانت 1724 ـ 1800) أثرها في توجيه الفكر الأدبي والنقدي نحو التعبيرية، فقد كان ((يرى بأن طريق المعرفة الحقيقية هو الشعر))، وجاء بعده هيكل (1770 ـ 1813) الذي عمق من التأكيد على الذات الإنسانية واعتبر الإيمان بالعالم الخارجي متوقفاً على هذه الذات. وما دامت الذوات تتغير، فإن كلا منها يخلق العالم على صورة خاصة. وهذا يعني أن الذاتي يخلق الموضوعي، وأن العالم الداخلي للذات العارفة هو أساس صورة العالم الخارجي لديهما. وما دام الأمر كذلك، فلابد أن يقوم الشعور والوجدان والعاطفة على العقل والخبرة والتجربة.
ومن أسباب ظهور الرومانسية اكتشاف شكسبير وتأثير أدبه الذي لم يتقيد بالوحدات الثلاث (وحدة الزمان والمكان والحدث) ولم يلتزم بمبدأ الفصل بين الأنواع التي كان اليونانيون والكلاسيكيون الجدد يتقيدون بها، بالإضافة إلى ما في أبده من قدرة على التحليل ووصف العواطف الإنسانية والأخلاق البشرية.
وبما أن المتطلعين إلى التجديد كانوا يضيقون بالقواعد الكلاسيكية فإنهم أعجبوا بمسرحيات شكسبير وفضلوها على المسرحيات الكلاسيكية المتأثرة بالمسرحيات اليونانية ومن أولئك فيكتور هوجو أحد رواد الرومانسية الفرنسية الذي قام بترجمة مسرحيات شكسبير إلى الفرنسية ودراستها دراسة متمعنة، مستنبطاً ما فيها من خصائص، ومتخذاً منها سلاحاً ضد الكلاسيكية وقواعدها.
وعلى الرغم من أن الفرنسيين كانوا السباقين لاكتشاف شكسبير فإن الألمان كانوا أشد إعجاباً به واستفادة من آرائه.
ومما كان له أثر، كذلك، في التوجيه الرومانسي الأوربي تلك الرحلات والأسفار إلى عالم الشرق الساحر حيث أطلق خيال الأوربيين في الحلم بحياة خير من حياتهم المادية. فلقد كتب الرحالة عن حكمة المصريين ووصفوا سحر بغداد، كما جسدته حكايات ألف ليلة وليلة، ووصفوا الهند، بما فيها من عادات وتقاليد غربية.
ولقد كان لفشل نابليون وهزيمته في معركة (واترلو) عام 1815 أثراً بارزاً في تأجيج الروح الرومانسية، وطبعها بطابع الحزن واليأس والتشاؤم، وذلك لأن الفرنسيين الذين حسبوا أنهم أصبحوا حملة لراية الحرية، وصاروا يحلمون بأنهم سيقودون العالم، ويملكون فجاج الأرض، انتهوا إلى هزيمة منكرة، ووقعوا في قبضة أعدائهم.
ونستطيع أن نتعرف على ملامح هذا المذهب من خلال موقف شعرائهم من هذه القضايا الموضوعية:
1 ـ الدين: يلاحظ القارئ لأشعار الرومانسيين أنهم أكثر ميلاً إلى الدين من المذهب الكلاسيكي السابق، وهذا ما ينسجم وطابع التوجه العاطفي لديهم، فقد شدهم عالم الروح وغموضهِ وأسرارهِ. وربما يكون هذا الميل نتيجة لطغيان التوجه المادي في الحياة الأوربية. ولكن هذا لا يعني أنهم جعلوا من نتاجاتهم محتوى للأفكار الدينية، أو دعوا إلى هذه الأفكار بطريقة وعظية، بل إن شعرهم يعبر عن حاجة الإنسان إلى العقيدة الروحية (ولكنها عقيدة حرة منبعها القلب، ولا تلتزم حرفياً اتباع دين من الأديان السماوية) وربما وجدت لدى بعضهم شطحات صوفية غريبة، وربما صاحب أشعارهم كثير من الشك والقلق وعدم الاطمئنان.
2 ـ الطبيعة: مثل الميل إلى الطبيعة لدى الرومانسيين مرحلة حضارية جسدتها فكرة الثورة على القيود والتقاليد والظلم، وذلك منذ أن دعا جان جاك روسو إلى أن يتعلم الإنسان من الطبيعة مباشرة، وليس مما اعتاده الناس من مواصفات. ومنذ ذلك الحين صار التوجه إلى الطبيعة يمثل ميلاً إلى الفطرة والنقاء والحرية. وقد عرف عن الرومانتيكيين حبهم للوحدة، ورغبتهم في ترك المدن والفرار إلى الطبيعة بما فيها من حقول وبحار وجبال، بعيداً عن مشكلات المجتمع وهمومه وحروبه.
وفي الغالب فإنهم يتناولون من الطبيعة مناظرها الكئيبة التي تتلاءم مع أحاسيسهم ومع حالاتهم كالعواصف والقمر الشاحب والليالي المظلمة، والأمواج الهائجة، ويصفون سقوط أوراق الأشجار، وتلبد السماء بالغيوم والضباب، وتساقط الثلوج، ويتحدثون عن الذبول والفناء من خلال مشاهد الخريف خاصة.
والرومانسيون لا يحبون الطبيعة فحسب، بل يعدونها صديقة لهم تشاركهم مشاركة روحية وقلبية، وربما ارتفع هذا الحب إلى درجة التقديس، وربما صار مجلى لعظمة الله الذي أبدعها.
3 ـ الحب والمرأة: تختلف نظرة الرومانسيين للحب والمرأة عن سابقيهم الكلاسيكيين الذين كانوا يصدرون عن طابع العقل، فينظرون إلى الحب على أنه نوع من الهوى، فكانوا قليلاً ما يتحدثون عن ذواتهم وتجاربهم الخاصة.
أما الرومانسيون فقد قادهم التوجه العاطفي إلى النظرة إلى الحب على أنه عاطفة ملهمة وفضيلة كبرى. وقد ارتفعوا بالحب إلى درجة التقديس والعبادة وارتفعوا به عن النزوات والدوافع الحسية.
ونتيجة لهذا ارتفعت مكانة المرأة لديهم فصارت ملاكاً نزل من السماء لينقي النفوس ويطهرها، ويقربها إلى الله، ولكن هذا كان يقترن في بعض الأحيان بالنظر إليها إلى أنها شيطان غاو وكائن خائن، خاصة لدى الشعراء الذين فشلوا في حبهم أو هجرتهم نساؤهم، أو خانتهم حبيباتهم.
وإذا ما أضفنا إلى هذه المواقف خصائصهم الفنية التي اقتربت اللغة فيها إلى لغة الحياة اليومية، وابتعدت عن اللغة التي تستوحي عالمها من الأدب القديم ومفرداته. ولا عجب فاشتقاق الرومانسية جاء من كلمة (Romnius) التي أطلقت على اللغات واللهجات الشعبية التي تفرعت من اللغة اللاتينية. ثم هي تستقي مفرداتها من عوالم الطبيعة والروح والموسيقى والحب، وهي عوالم تجنح باللغة إلى الرقة والهمس بعيداً عن الجهرية والخطابة القديمة.
أما صورهم فهي صور الخيال الجامع، والعالم المجهول، والعلاقات الشفيفة بين الأشياء وسيطرة العاطفة على هذا الخيال، وقيادتها له. وربما صاحب هذا ميل إلى الرموز والأساطير، وهذا الميل سيفضي إلى مذهبية واضحة المعالم كما سنشهد لدى المدرسة الرمزية.
وخلاصة الأمر في سمات الرومانسية أنها تعبير عن ذات الأديب ونوازعه، وليس محاكاة لعالم المثل، أو عالم الطبيعة، كما هو الحال في نظرية المحاكاة اليونانية، بل هي ليست تعبيراً عن المجتمع وقوانينه، كما هو الحال في نظرية الانعكاس في المذهب الواقعي .. ولهذا سمي المذهب الرومانسي بالمذهب التعبيري. ويراد به التعبير عن عواطف الأديب وعوالمه الذاتية.
وقد أشرنا إلى أن التعبير عن الذات لدى الرومانسيين كثيراً ما كانت ترافقه الشكوى والإحساس بالألم والتبرم من الحياة وقوانين المجتمع وظلمه، ولذلك جاءت نتاجاتهم طافحة بالأحزان متلفعة بالتشاؤم لائذة بالهروب أما إلى الطبيعة أو إلى عوالم الروح أو إلى الماضي بذكرياته المرة والحلوة أحياناً.
وهذه المعالم الرومانسية الأوربية نجد لها بعض الملامح في شعرنا العربي القديم، ولكنها لم تتخذ طابعاً مذهبياً تتجسد فيه النسب الفنية الرومانسية بدرجة عالية إلا في العصر الحديث، وفي الرابع الأول من القرن العشرين خاصة. وذلك للاتصال المباشر بين حياتنا الثقافية والثقافة الأوربية عن طريق الصحافة والكتاب والسفر بل والمناهج المدرسية الحديثة في الأقطار العربية.
ولا أخطئ إذا قلت إن (هازلت) هو إمام هذه المدرسة كلها في النقد، لأنه هو الذي هداها إلى معاني الشعر والفنون وأغراض الكتابة.
يقول أبوالقاسم الشابي:
ها أنا ذاهب إلى الغاب يا شعبي
لأقضي الحياة وحدي بيأسي
ها أنا ذاهب إلى الغاب على
في صميم الغابات أدفن بؤسي
ثم أنساك ما استطعت فما أنت
بأهل لخمرتي ولكأسي
سوف أتلو على الطيور أناشيدي
وأفضي لها بأحزان نفسي
فهي تدري معنى الحياة وتدري
إن مجد النفوس يقظة حسي
ثم تحت الصنوبر الناضر الحلو
تحط السيول حفرة رمسي
وتظل الطيور تغلو على قبري
ويشدو النسيم فوقي بهمس
وتظل الفصول تمشي حوالي
كما كن في غضارة أمسي
فهو يهرب من الواقع الذي لا ينسجم ومثله وطموحاته، ويثور على المجتمع، ولكنها ثورة سلبية، ولهذا تراه يرتاح إلى العيش في الغاب بعيداً عن الظلم الاجتماعي. تطلعاً إلى الحرية والبراءة، وبحثاً عن القيم المفقودة في المجتمع. بل تشنيعاً بالبشر الذين لا يقدرون قيمة الشاعر ذي القلب النبوي، والروح العبقري.
إنه ارتياح إلى الطبيعة في هذه الحياة، وما بعدها، حيث تظل رموز هذه الطبيعة من الصنوبر والسيول والطيور والنسيم، بل الفصول كلها تغني لهذا الزائر الذي أحبها وأفنى حياته فيها.
ومن شعر الطبيعة إلى الحب والمرأة التي صارت لدى الرومانسيين مثالاً يطمح كل شاعر أن يحظى بعناقه في عالم الواقع، ولكنه يعز ويصبح بعيد المنال، فيزدادون تشوفاً إليه وتحرقاً، وينظرون إليه نظرة تقديس وتهيب وجلالة، حتى لتراهم يتحدثون عن المحبوب وكأنهم في محاريب عبادة وتبتل. ولهذا شاع في قاموسهم الشعري هذا السيل من الألفاظ الدينية ذات الدلالات الموحية، مثل: الصلاة، والوحي، والمحراب، والكعبة، والهدى, والنور ... تلاحظ هذا بشكل خاص في شعر إبراهيم ناجي، فهو يتطهر بالحب ويسمو به حتى يصبح روحاً شفافة لا تنتمي إلى عالم المادة والطين، يتجاوز خطايا الناس ويغفر لهم زلاتهم معه، لأنه تجاوز عالمهم الحسي المحدود إلى عوالم أوسع وأرحب بفضل هذا الحب الكبير:
سنانك صلاة أحلامي
وهذا الركن محرابي
به ألقيت آلامي
وفيه طرحت أوصابي
هوى كالسحر صيرني
أرى بقريحة الشحب
وطهرني وبصرني
ومزق مغلق الحجب
سموت كأنما أمضي
إلى رب يناديني
فلا قلبي من الأرض
ولا جسدي من الطين
سموت ودق إحساسي
وجزت عوالم البشر
نسيت صغائر الناس
غفرت إساءة القدر
بهذه اللغة الشفيفة، وهذه الصورة الموحية المكثفة المرتبطة بالنفس، وهذه الموسيقى المتلونة الهامسة. ولا أظن إننا بهذا النص أو بغيره نستطيع أن نرصد الخصائص المعنوية والفنية لهذه المدرسة، فالعودة تكون، إذاً، لدواوين الشعراء أنفسهم، وللدراسات التي كتب عنهم.